سورة الأنبياء - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}.
يقول تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: وجب، يعني: قدرًا مُقَدرًا أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة. هكذا صرح به ابن عباس، وأبو جعفر الباقر، وقتادة، وغير واحد.
وفي رواية عن ابن عباس: {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي: لا يتوبون.
والقول الأول أظهر، والله أعلم.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}: قد قدمنا أنهم من سلالة آدم، عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث أبي الترك، والترك شرذمة منهم، تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين.
وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 98، 99]، وقال في هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} أي: يسرعون في المشي إلى الفساد.
والحَدَب: هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو صالح، والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم، كأن السامع مشاهد لذلك، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]: هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض، لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد قال: رأى ابُن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض، يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج.
وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية:
فالحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة، عن محمود بن لَبيد، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ، فيخرجون كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، فيغشونَ الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيَهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضَهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يَبَسا، حتى إن مَنْ بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان هاهنا ماء مرةً حتى إذا لم يبقَ من الناس أحد إلا أحدٌ في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهلُ الأرض، قد فرغنا منهم، بقي أهلُ السماء». قال: «ثم يهزّ أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مُخْتَضبَةً دما؛ للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دودا في أعناقهم كنَغَف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يُسمَع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يَشْري لنا نفسه، فينظر ما فعل هذا العدو؟» قال: «فيتجرّد رجل منهم محتسبا نفسه، قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى، بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين، ألا أبشروا، إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويُسَرِّحون مواشيهم، فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فَتَشْكر عنه كأحسن ما شَكرَت عن شيء من النبات أصابته قط».
ورواه ابن ماجه، من حديث يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق، به.
الحديث الثاني: قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي- قاضي حمص- حدثني عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير الحضرمي، عن أبيه، أنه سمع النَّوّاس بن سمْعانَ الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غَداة، فخَفَض فيه ورَفَع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فسألناه فقلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال الغداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: «غير الدجال أخْوَفُني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم: إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه طافية، وإنه يخرج خَلَةَ بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا».
قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم».
قلنا: يا رسول الله، فذاك اليوم الذي هو كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: «لا اقدروا له قدره».
قلنا: يا رسول الله، فما إسراعه في الأرض؟ قال: «كالغيث استدبرته الريح». قال: «فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذُرَى، وأمده خواصر، وأسبغه ضروعا. ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قولَه، فتتبعه أموالهم، فيصبحون مُمْحلين، ليس لهم من أموالهم. ويمر بالخَربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل». قال: «ويأمر برجل فيُقتَل، فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض، ثم يدعوه فيقبل إليه يتهلل وجهه. فبينما هم على ذلك، إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، بين مَهْرُودَتَين واضعا يَدَه على أجنحة مَلَكين، فيتبعه فيدركه، فيقتله عند باب لُدّ الشرقي».
قال: «فبينما هم كذلك، إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يَدَانِ لك بقتالهم، فَحَوّز عبادي إلى الطور، فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج، وهم كما قال الله: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم نَغَفًا في رقابهم، فيصبحون فَرْسى، كموت نفس واحدة. فيهبط عيسى وأصحابه، فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زَهَمُهم ونَتْنهُم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البُخْت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله».
قال ابن جابر فحدثني عطاء بن يزيد السَّكْسَكيّ، عن كعب- أو غيره- قال: فتطرحهم بالمَهْبِل. قال ابن جابر: فقلت: يا أبا يزيد، وأين المَهْبِل؟، قال: مطلع الشمس.
قال: «ويرسل الله مطرًا لا يَكُنَّ منه بيت مَدَر ولا وَبَر أربعين يوما، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزّلَقَةِ، ويقال للأرض: أنبتي ثمرتك، ورُدي بركتك». قال: «فيومئذ يأكل النفر من الرمانة ويستظلون بقحْفها، ويُبَارك في الرَسْل، حتى إن اللَّقْحَةَ من الإبل لتكفي الفِئَامَ من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت».
قال: «فبينما هم على ذلك، إذ بعث الله عز وجل ريحا طيبة تحت آباطهم، فتقبض روح كل مسلم- أو قال: كل مؤمن- ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير، وعليهم تقوم الساعة».
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه مع بقية أهل السنن من طرق، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به وقال الترمذي: حسن صحيح.
الحديث الثالث: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، عن ابن حَرْمَلَة، عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعُه من لدغة عَقْرب، فقال: «إنكم تقولون: لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا، حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه، صغار العيون، صُهْبَ الشّعاف، من كل حَدَب ينسلون، كأن وجوههم المَجَانّ المُطرَقة».
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو، عن خالد بن عبد الله بن حَرْمَلة المدلجي، عن خالة له، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
الحديث الرابع: قد تقدم في تفسير آخر سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن العَوَّام، عن جَبَلَة بن سُحَيْم، عن مُؤثر بن عَفَازَةَ، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، عليهم السلام، قال: فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أما وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيها عهد إلي ربي أن الدجال خارج».
قال: «ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص» قال: «فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله». قال: «فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم». قال: «فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنسلون، فيطؤون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه». قال: «ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم، حتى تَجوى الأرض من نَتْن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم، حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إليّ ربي أن ذلك إذا كان كذلك، أن الساعة كالحامل المُتِمّ، لا يدري أهلها متى تَفْجُؤهم بولادها ليلا أو نهارا».
ورواه ابن ماجه، عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون، عن العَوَّام بن حَوْشَب، به، نحوه وزاد: قال العَوَّام، ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}.
ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة، به.
والأحاديث في هذا كثيرة جدا، والآثار عن السلف كذلك.
وقد روى ابُن جرير وابن أبي حاتم، من حديث مَعْمَر، عن غير واحد، عن حميد بن هلال، عن أبي الصَّيف قال: قال كعب: «إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم، فإذا كان الليل قالوا: نجيء غدا فنخرج، فيعيده الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غدا فنخرج إن شاء الله. فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون حتى يخرجوا. فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة، فيشربون ماءها، ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان هاهنا مرة ماء، ويفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مُخَضَّبة بالدماء فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء. فيدعو عليهم عيسى ابن مريم، عليه السلام، فيقول: اللهم، لا طاقة ولا يَدَين لنا بهم، فاكفناهم بما شئت، فيسلط الله عليهم دودا يقال له: النغف، فيفرس رقابهم، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عينا يقال لها: الحياة يطهر الله الأرض وينبتها، حتى أن الرمانة ليشبع منها السَّكْن. قيل: وما السَّكن يا كعب؟ قال: أهل البيت- قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصَّريخ أن ذا السُّويقَتَين يريده. قال: فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة، أو بين السبعمائة والثمانمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عَجَاج الناس، فيتسافدون كما تَسَافَدُ البهائم، فَمَثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع؟» قال كعب: فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا- أو بعد علمي هذا شيئا- فهو المتكلف.
هذا من أحسن سياقات كعب الأحبار، لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق، وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عُتبَةَ، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليُحَجَّنَّ هذا البيت، وليُعْتَمَرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج». انفرد بإخراجه البخاري.
وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يعني: يوم القيامة، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8]. ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام: {يَا وَيْلَنَا} أي: يقولون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي: في الدنيا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}، يعترفون بظلمهم لأنفسهم، حيث لا ينفعهم ذلك.


{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}.
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش، ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، قال ابن عباس: أي وقودها، يعني كقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
وقال ابن عباس أيضا: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} بمعنى: شجر جهنم. وفي رواية قال: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يعني: حطب جهنم، بالزنجية.
وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة- رضي الله عنهما.
وقال الضحاك: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي: ما يرمى به فيها.
وكذا قال غيره. والجميع قريب.
وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي: داخلون.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} يعني: لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار، ولما دخلوها، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: العابدون ومعبوداتهم، كلهم فيها خالدون، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}، كَمَا قَالَ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، والزفير: خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفاسهم، {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا ابن فُضَيْل، حدثنا عبد الرحمن- يعني: المسعودي- عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار، جُعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، فلا يَرَى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد الله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}.
ورواه ابن جرير، من حديث حجاج بن محمد، عن المسعودي، عن يونس بن خَبّاب، عن ابن مسعود فذكره.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}: قال عكرمة: الرحمة.
وقال غيره: السعادة، {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسُله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: وقال {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرحمن: 60]، فكما أحسنوا العمل في الدنيا، أحسن الله مآلهم وثوابهم، فنجاهم من العذاب، وحَصَل لهم جزيل الثواب، فقال: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي: حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبيه، عن الجريري، عن أبي عثمان: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}، قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حَسَ حَسَ.
وقوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن ليث بن أبي سليم، عن ابن عم النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال- وسَمَرَ مع علي ذات ليلة، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم- أو قال: سعد منهم- قال: وأقيمت الصلاة فقام، وأظنه يجر ثوبه، وهو يقول: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}.
وقال شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف المكي، عن محمد بن حاطب قال: سمعت عليا يقول في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال: عثمان وأصحابه.
ورواه ابن أبي حاتم أيضا، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد- وليس بابن ماهك- عن محمد بن حاطب، عن علي، فذكره ولفظه: عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}: فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرًا هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جِثيًا.
فهذا مطابق لما ذكرناه، وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين، وخرج منهم عزير والمسيح، كما قال حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}، ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} فيقال: هم الملائكة، وعيسى، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل.
وكذا قال عكرمة، والحسن، وابن جريج.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال: نزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة، حدثنا أبو زُهَير، حدثنا سعد بن طَرِيف، عن الأصبغ، عن عَليّ في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}، قال: عيسى، وعُزَيْر، والملائكة.
وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر.
وكذا روي عن سعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا، فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرُّخَّاني، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، حدثنا الليث بن أبي سليم، عن مُغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: عيسى، وعُزَير، والملائكة.
وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين، قال أبو بكر بن مَرْدُويه:
حدثنا محمد بن علي بن سهل، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَةَ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا الحكم- يعني: ابن أبان- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، فقال ابن الزبعرى: قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة، وعُزَير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، ثم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا قَبِيصة بن عقبة، حدثنا سفيان- يعني: الثوري- عن الأعمش، عن أصحابه، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال المشركون: فالملائكة، عُزَير، وعيسى يُعْبَدون من دون الله؟ فنزلت: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}، الآلهة التي يعبدون، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وروي عن أبي كُدَيْنَة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس مثل ذلك، وقال فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وقال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، في كتاب السيرة: وجلس رسول الله- فيما بلغني- يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لَخَصمته، فسلوا محمدًا: كل ما يُعْبَد من دون الله في جهنم مع من عَبَده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس، من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كل مَنْ أحَبَّ أن يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمَرَتْهُم بعبادته. وأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}» أي: عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله. ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26- 29]، ونزل فيما ذُكر من أمر عيسى، وأنه يعبد من دون الله، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 57- 61].
أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكَفى به دليلا على علم الساعة، يقول: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61].
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها؛ ولهذا قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما، ممن له عمل صالح، ولم يَرْضَ بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن (ما) لما لا يعقل عند العرب.
وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرًا:
يا رَسُولَ المليك إنّ لساني *** رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ
إذْ أجَاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغَي *** وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور
وقوله: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل: المراد بالفزع الأكبر: النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس، وأبو سِنَان سعيد ابن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل: حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.
وقيل: حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر، وابن جُرَيج.
وقيل: حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي، فيما رواه ابن أبي حاتم، عنه.
وقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، يعني: تقول لهم الملائكة، تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي: قابلوا ما يسركم.


{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)}.
يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] وقد قال البخاري:
حدثنا مُقَدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله يقبض يوم القيامة الأرضَين، وتكون السموات بيمينه».
انفرد به من هذا الوجه البخاري، رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي الواصل، عن أبي المليح الأزدي، عن أبي الجوزاء الأزدي، عن ابن عباس قال: يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة.
وقوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، قيل: المراد بالسجل الكتاب. وقيل: المراد بالسجل هاهنا: مَلَك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، قال: السجل: مَلَك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نورًا.
وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية: السجل: مَلَك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابُه إلى السجل فطواه، ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل: المراد به اسم رجل صحابي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ، حدثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، قال: السجل: هو الرجل.
قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب- هو العَوْذي- عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد، عن نوح بن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي، كما تقدم.
ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}، قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك نطوي السماء، ثم قال: وهو غير محفوظ.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي، أن حمدان بن سعيد حدثهم، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: السجلّ: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه- وإن كان في سنن أبي داود- منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي، فَسَح الله في عمره، ونَسَأ في أجله، وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث، ورده أتم رد، وقال: لا يُعَرف في الصحابة أحد اسمه السجِل، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصَدَق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا، فإنما اعتمد على هذا الحديث، لا على غيره، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي، عنه. ونص على ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد. واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي: على هذا الكتاب، بمعنى المكتوب، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، أي: على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم.
وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يعني: هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم، وذلك واجب الوقوع، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى، قالا: حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين»؛ وذكر تمام الحديث، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة.
ورواه البخاري عند هذه الآية في كتابه.
وقد روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} قال: نهلك كل شيء، كما كان أول مرة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11